الملف السياسي

عندما يتجرع الفلسطينيون السم.. ويجلسون للتفاوض !!

15 يناير 2018
15 يناير 2018

د. عبدالحميد الموافي -

إن مرور الوقت يخدم إسرائيل ومخططها فقط، فهل يتجرع الفلسطينيون السم، ويجلسون على مائدة المفاوضات للدفاع عن حقوقهم والتمسك بها، ولفضح محاولات تجريدهم منها، ووضع كل الحقائق أمام الرأي العام، وللتوصل إلى خطوات تسمح بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أم سنراهن على الزمن البائس الآن وفي المستقبل المنظور ؟!!

عندما أعلن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله الخميني في أواخر عام 1988 انه (يتجرع السم) بالموافقة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 578 لوقف الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، والتي حصدت أرواح أكثر من مليون جندي إيراني وعراقي، ودمرت كثير من مقومات اقتصاد الدولتين النفطيتين الكبيرتين، فانه بالتأكيد كان بعيد النظر، والأكثر انه امتلك الشجاعة الكافية والإرادة السياسية القادرة على وقف استمرار الحريق والنزيف الحاد. لأن إيران حرصت على الاستفادة من الدرس سريعا، ودون إضاعة وقت، وأعادت بناء قدراتها الذاتية، برغم أية مصاعب، أو مشكلات، فان الأوضاع الاستراتيجية اليوم، ليس فقط بين العراق وإيران، ولكن على مستوى المنطقة أيضا تحقق المصالح والأهداف الإيرانية، بغض النظر عن الخلافات والجدل حول تلك الأهداف، أو سبل تحقيقها. ولعل السؤال الآن هو هل يتجرع الفلسطينيون السم ويجلسون على مائدة المفاوضات لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من حقوقهم الوطنية المشروعة ؟ أم سيتواصل الوقوع الفلسطيني والعربي بالتأكيد في مصيدة الرفض، والصمود والتصدي، ومحور المقاومة، والهروب إلى الأمام باجترار الشعارات، ومنح الإسرائيليين مزيدًا من الوقت والفرص لالتهام ما تبقى من القدس الشرقية والضفة الغربية بالاستيطان، الذي لم ولن يتوقف للأسف الشديد، لسبب بسيط هو أن الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، وهو أسوأ أنواع الاحتلال التي عرفها العالم، يريد ابتلاع القدس الشرقية، والضفة الغربية كذلك، أما قطاع غزة، فان ارييل شارون انسحب منه عام 2000 ليغرق الفلسطينيين في إدارته وتحمل مسؤولياته، نظرا لأنه المساحة الأكثر اكتظاظا بالسكان على مستوى العالم، والأكثر احتياجًا أيضًا لكل مقومات الحياة، وليس من مصلحة إسرائيل الاحتفاظ به.

ولعله من الأهمية بمكان التأكيد على حقيقة أن الإيمان بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق، وبحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، هو إيمان لا يتزعزع، غير أن تحقيق ذلك، والسير العملي نحوه، هو شيء آخر، يتجاوز بالتأكيد المنطلق السياسي، إلى خطوات عملية على الأرض يمكن معها استخلاص الحقوق، بكل السبل الممكنة. وإذا كانت حركة التحرير الوطني الفلسطينية، قد قدمت، ولا تزال تقدم الكثير من التضحيات، من أجل محاولة استخلاص الحقوق الفلسطينية، فان احترام تلك التضحيات، يتطلب العمل بكل السبل الممكنة والمتاحة أيضا لتحقيقها، ولو خطوة خطوة، أما الاختباء وراء الشعارات الزاعقة والمضللة أيضا، وترك القضية للأجيال القادمة، وللزمن ليحكم فيها، والاكتفاء بإدارة الموقف لصالح هذا الفريق الفلسطيني أو ذاك، حتى تنقضي الآجال، فانه لا يفيد ولن يفيد لا الشعب الفلسطيني، ولا قضيته، ولا الحاضر ولا المستقبل. ومع إدراك ثقل هذا الحديث، وإثارته لكثيرين من قيادات النضال الشعاراتي النظري، والمتعايشين والمستفيدين من استمرار الأوضاع الراهنة، في فلسطين وخارجها وعلى المستوى الإقليمي الأوسع أيضا، إلا أن مستقبل القدس بوجه خاص، والضفة الغربية المحتلة بوجه عام، والقضية الفلسطينية ككل وصلت الآن إلى مفترق طرق حرج، فهي على شفا الابتلاع الإسرائيلي العملي لها، سواء من خلال قانون القدس الموحدة، الذي اتخذه الكنيست الإسرائيلي قبل أيام، أو من خلال التمهيد الإسرائيلي الواضح لابتلاع الضفة الغربية، وجس النبض لضمها إلى إسرائيل، أو على الأقل مد تطبيق القانون الإسرائيلي إلى المستوطنات المقامة فيها، وهو ما يعني بكلمات أخرى إدخال معظمها تحت السيادة الإسرائيلية، ويتبنى تحالف الليكود بزعامة نتانياهو هذا الاتجاه بشكل واضح. نعم سنشجب وندين، وسنندد بإسرائيل وبالدعم الأمريكي والغربي لها، وحتى سنشق الجيوب ونلطم الخدود على الحظ العاثر والمصير السيئ للفلسطينيين والعرب، الذين يُتربَص بهم ويحاول اللئام اقتسام مواردهم، وممارسة النفوذ عليهم وعلى أراضيهم، ولكن هل هذا يكفي لتنفيس شحنة الغضب الجماهيرية، وهل هذا سيؤدي إلى استخلاص الحقوق؟ وهل هذا يعفينا من المسؤولية، فلسطينيين وعربا بالدرجة الأولى؟ إن الأمر بالتأكيد ليس مرثية، وليس دعوة للقنوط، ولا تثبيطا للهمم، ولكنه دعوة للعمل لوقف سلسلة الخسائر الفلسطينية للأرض، والتي تؤثر بالتأكيد على المستقبل، فهل يمكن وقف غول الاستيطان الإسرائيلي الآن؟ وهل يكفي أن نركن ونكتفي بالإدانة الدولية للمستوطنات؟ وهل نقتنع حقا بأن ما يجري واستمراره لن يغير من حقيقة الأوضاع على الأرض ومن فرص استخلاصها في المستقبل ؟ المرجح ان الفلسطينيين يجدون أنفسهم يتجرعون السم الآن، والعرب من حولهم، من أجل محاولة التوصل إلى تسوية والى حل شامل وعادل يوقف غول الاستيطان، ويبقي على القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية التي من المزمع إقامتها على حدود الرابع من يونيو عام 1967، ويحرم إسرائيل من مزيد من الوقت لتنفيذ مخططاتها، أما صب اللعنات وحده، أو تبادل الاتهامات بين الفصائل الفلسطينية، وإدخال القضية الفلسطينية إلى دائرة المزايدات والمكايدات السياسية العربية والإقليمية، فان الفلسطينيين وحدهم هم من يسددون ثمنها في النهاية، من الأرض ومن المستقبل. وأمام مفترق الطرق الحرج هذا فانه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إن هذه هي أسوأ مرحلة، سواء بالنسبة للنضال الوطني الفلسطيني، أو بالنسبة للعرب، الذين نالت منهم، بدرجة كبيرة، ما سمي بالربيع العربي، والذي ظهر انه كان نوعا من محاولة الهدم الممنهج للتماسك وللقدرات العربية، بغض النظر عن أية آمال أو تطلعات صادقة لشرائح عربية، تتوق لحياة افضل، ظنت ان شمس الانعتاق تشرق في سمائها، فاستفاقت على التطرف والإرهاب والدمار الحروب الداخلية وموجات الهجرة غير المسبوقة لأبنائها. في هذا المناخ المستمر منذ سبع سنوات تقريبًا، كانت التقديرات الإسرائيلية، والأمريكية - إدارة ترامب وإدارة أوباما قبلها وحتى إدارة بوش الابن - ان الأهداف الإسرائيلية إذا لم تتحقق في مثل هذه الظروف، فإنها لن تتحقق أبدا . وان ردود الفعل العربية والفلسطينية، لن تتجاوز على الأرجح ردود الفعل المعروفة غالبا، وانه سرعان ما تعود الحياة، بفعل عوامل وضغوط كثيرة، إلى وتيرتها العادية. ومن هذا اليقين الإسرائيلي والأمريكي أيضا، جاء قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، وجاء قرار الكنيست بشأن القدس الموحدة، وجاء قرار الليكود حول تطبيق القانون الإسرائيلي على مستوطنات الضفة الغربية، وحتى جاء قرار بريطانيا الاحتفال بمئوية وعد بلفور، وكأنه إنجاز، وان كان وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون حاول مؤخرًا التخفيف النسبي من ذلك بالتأكيد على التأييد البريطاني للحقوق الفلسطينية ولعدم تغيير الوضع في القدس إلا من خلال المفاوضات والتمسك بحل الدولتين .

وبعد فورة الغضب العربية والإسلامية التي جرت والتي لا تزال متواصلة بشكل، أو بآخر، وبعد مظاهرات الشباب الفلسطيني وتعمد قوات الاحتلال الهمجية إحداث خسائر متزايدة فيهم، بأشكال مختلفة، عادت التحركات بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبإجماع في مجلس الأمن الدولي ضد الموقف الأمريكي، أسقطته واشنطن بالفيتو. وبدأ الحديث الفلسطيني عن ضرورة تصحيح العلاقة مع الولايات المتحدة، ولا تظهر بارقة لا مكانية تعديل آلية عملية السلام في الشرق الأوسط، التي تلعب واشنطن فيها دورًا بالغ التأثير، بغض النظر عن الرغبة الفلسطينية والعربية وحتى رغبة بعض القوى الإقليمية والدولية في ذلك من منطلق صراعاتها مع واشنطن، وذلك نتيجة لاعتبارات وأسباب عديدة ومعروفة، لا تستجيب عادة للعواطف ولا لردات الفعل، لأنها ببساطة حسابات مصالح، يجيد الإسرائيليون والأمريكيون بالطبع اللعب بها، ويتركون لنا كعرب رد الفعل الانفعالي القصير الأجل. وفي حين عبرت اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، واجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني في رام الله هذه الأيام، عن مدى عمق واتساع الانقسامات الفلسطينية، بل وخطورتها، إذ لم تحضر حركة حماس ولا حركة الجهاد الإسلامي ولا الجبهة الشعبية - القيادة العامة اجتماعات رام الله، كما جرت مشادات عنيفة بين الرئيس عباس وبعض الأعضاء، فان ما يقوم به نتانياهو الآن - منذ أمس الأول وحتى اليوم - بالغ الدلالة والمعني، إذ يقوم بزيارة لجمهورية الهند الصديقة للعرب ولإسرائيل بالطبع، وليس مصادفة أن يبتلع نتانياهو معارضة الهند لقرار ترامب في الجمعية العامة للأمم المتحدة ويتجاوزه لأنه ببساطة يريد تحقيق مصالح اهم لإسرائيل، اليوم وغدا.

*ثانيًا: انه بالرغم من إدراك أن قرار الكنيست بشأن جعل التنازل عن أي جزء من القدس -الموحدة بالطبع- أو إقامة كيانات بها لا تخضع للسيادة الإسرائيلية، مرهونا بموافقة ثلثي أعضاء الكنيست - أي موافقة 80 عضوًا من إجمالي 120 عضوًا هم إجمالي أعضاء الكنيست - هو قرار تعجيزي بالنسبة لأية حكومة أو ائتلاف حكومي في إسرائيل، بحكم طبيعة التركيبة السياسية فيها والهامش المحدود لأغلبية أي ائتلاف على مدى العقود الأخيرة، وهو ما يعني مصادرة حق الحكومة الإسرائيلية في اتخاذ ما قد تراه مناسبًا لإنجاز تسوية سياسية، عندما ترى ذلك ممكنًا، فان هناك نقطتين أساسيتين يمكن الاستناد إليهما في مواجهة ذلك:

النقطة الأولى هي أن قرار الكنيست في الثاني من يناير الجاري، جاء امتدادًا لقانون القدس الموحدة لعام 1980 والتعديلات التي أدخلت عليه، وهذا القانون هو قانون باطل لأنه قضى بضم أراض محتلة -وفق القرارات الدولية- إلى إسرائيل، بدعاوي أحادية الجانب، ودون موافقة المواطنين الفلسطينيين القاطنين في تلك الأراضي، وهي هنا القدس الشرقية. ولذا يظل هذا القانون باطلا حتى يتم الاتفاق على الوضع الخاص بالقدس في مفاوضات الوضع النهائي. وقد حاولت إدارة ترامب تبرير قرارها، أو الدفاع عنه بالقول ان الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يتضمن تحديد أية حدود، وان الحدود في القدي ستحددها مفاوضات الوضع النهائي.

النقطة الثانية هي أن قرار الكنيست يظل قرارًا داخليًا إسرائيليًا، وبحكم التراتب القانوني، فان القانون والقرارات الدولية تعلو القرارات الداخلية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بحكم تعبيرها عن الضمير ومصلحة المجتمع الدولي وسعيها لترجمة القانون الدولي والالتزام به لصالح المجتمع الدولي ككل. ومن هنا فان الحكومة الإسرائيلية، باعتبارها المعبر عن السلطة في إسرائيل أمام المجتمع الدولي مطالبة بالالتزام بالقرارات الدولية، وعندما تنتهكها، أو لا تستجيب إليها فإنها تعد دولة خارجة عن الشرعية الدولية.

وعلى أية حال يظل قرار الكنيست قرارا داخليا إسرائيليا يعبر عن الصراع السياسي في إسرائيل، بدليل ان القرار اعترض عليه اكثر من خمسين عضوا من أعضاء الكنيست الإسرائيلي. ومع أهمية هذه الجوانب القانونية، إلا أننا الآن في مواجهة قوة غاشمة، تريد فرض أمر واقع في القدس المحتلة وابتلاعها بأقصى سرعة بغض النظر عن أية نتائج ! وهي عادة لا تعطي إذنا لحديث الحق والقانون والشرعية الدولية طالما تتمتع بحماية واشنطن لها بقوة.

*ثالثا: انه في ظل الظروف والمعطيات الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية الراهنة، ورغبة أطراف مختلفة في الاستفادة من وضع الكوفية الفلسطينية حول أعناقها، ومع التقدير والاحترام العميق للتضحيات الفلسطينية والعربية من أجل فلسطين على مدى العقود الماضية، فان التعامل مع الوضع الراهن يبدأ بالتأكيد من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بمحاولة حشد الطاقات الفلسطينية، وإتمام المصالحة، والتخلي عن استثمار القضية لخدمة مصالح هذا الفصيل السياسي أو الطرف الإقليمي، أو ذاك، ودعم المواطنين الفلسطينيين للتمسك بالأرض، خاصة في القدس والضفة الغربية المحتلة، ولعل قرارات المجلس المركزي الفلسطيني، المنعقد في رام الله، تسير في هذا الاتجاه وتتمكن من التمهيد لتجاوز الخلافات الراهنة وإتمام المصالحة على النحو الذي يفيد الفلسطينيين والقضية بشكل عملي ومفيد.

وإذا كانت الدول العربية قد بلورت، في الاجتماع الوزاري الذي عقد في الأردن مؤخرًا، تصورات للتحرك السياسي، داخل الأمم المتحدة وخارجها، فانه لا ينبغي إتاحة الفرصة لإسرائيل والولايات المتحدة لإظهار أن الفلسطينيين يرفضون التفاوض، كما تركز إدارة ترامب على ذلك بشكل مسيء، بل واستثمار ذلك لزيادة الاستيطان وعزل وتهويد القدس وتفتيت الضفة الغربية.

ولأن مرور الوقت يخدم إسرائيل ومخططها فقط، فهل يتجرع الفلسطينيون السم ويجلسون إلى مائدة المفاوضات للدفاع عن حقوقهم والتمسك بها، ولفضح محاولات تجريدهم منها، ووضع كل الحقائق أمام الرأي العام، وللتوصل إلى خطوات تسمح بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أم سنراهن على الزمن البائس الآن وفي المستقبل المنظور ؟!!.